فى الاول من تشرين الاول (اكتوبر) 1970، اليوم الثالث لوفاته فى 28
سبتمبر، خرج ستة ملايين مصرى يشيعون جمال عبد الناصر ، فى مشهد لم تعرفه
مصر قبلها والى الآن ، واذا كان من الممكن اتهام العرب بالميل الى المبالغة
فى الوصف وفى الارقام فإننى ارجع وانا اكتب الان الى عدد مجلة "لايف"
الامريكية الشهيرة الصادرة فى 9 اكتوبر 1970م حاملا صورة عبد الناصر على
غلافه وايضا عدد شقيقتها مجلة "تايم" الصادر فى 12 اكتوبر فى نفس العام،
وقد احتفظت بالعددين فى مكتبتى الخاصة ، وبالمجلتين عشرات الصور لمشاهد
الجنازة وقد ظهر عشرات الالاف من المصريين تكتظ بهم القطارات ، ويقول
مراسلو المجلتين ان الملايين قد تدفقت على القاهرة من كافة انحاء مصر لحضور
الجنازة و انفجرت المظاهرات الفورية فى كل مكان هاتفين ناصر.. ناصر.. فى
تكرار لا نهائى وتحولت القاهرة الى نهر عظيم من الحزن والالم والغضب
والدمع، وارتعش وبكى الرجال كالاطفال وخرجت النساء "تلطم.. وتعدد" كعادة
المصريين من ايام الفراعنة و اتشحن بالسواد وكأن من مات هو زوج او اب او اخ
.
وتقول مجلة "تايم" ان القاهرة عبر الالف وواحد سنة من تاريخها لم
تعرف مثل هذا المشهد من قبل، وان المشيعيين انتظروا على ضفتى النيل، بعمق
مئتى شخص فى بعض الاماكن وبطول ضفتى نيل القاهرة وانهم تسلقوا الاشجار
واسطح المنازل وراحو يضغطون على حائط الجنود المحيط بالنعش من كل جانب وهم
يهتفون "لا اله الا الله.. ناصر ياحبيب الله" ، وراحو ايضا يهتفون "لم يمت
جمال عبد الناصر.. كلنا جمال عبد الناصر" وراح العالم يراقب بذهول وهو
لايصدق كيف يحزن شعب بهذ القدر على قائد مات بعد ان سبب له اعظم كارثة
سياسية فى تاريخه الحديث حيث انهزمت جيوش ثلاث دول عربية امام اسرائيل ،
ورحل وماتزال اسرائيل تقبع على ضفة القناة وقد احتلت كل سيناء وكل قطاع غزة
والضفة الغربية والقدس الشرقية وايضا مرتفعات الجولان السورية ، كيف لم
يزل فى قلوب هذا الشعب اية مشاعر للحب او التقدير لهذا القائد الذى سبب لهم
كل هذا الخراب!! سؤال ربما مايزال الغرب لايفهمه حتى الآن.
ان
الحرب الكلامية ماتزال دائرة على اشد وطيسها بين مناصريه- المعروفين
بالناصريين - وبين خصومه الكثيرين.. لايكاد يمر اسبوع فى مصر الا وتقرأ عدة
مقالات تدافع عن عبد الناصر والناصرية، او تهاجمه وتهاجمها هجوما ضاريا ،
ونعرف ايضا ان فى مصر ليس فقط ناصريون كافراد ولكن هناك ماتزال "الناصرية"
كحركة وفلسفة وتيار لها تجمعاتها واحزابها وجرائدها بما يمكن ان نستنتج معه
ان هتاف المشيعين بأن عبد الناصر لم يمت وكلنا جمال عبد الناصر لم يكن
مجرد انفعال عاطفى. و ان ماقاله الشاعر المصرى الكبير محمود حسن اسماعيل فى
قصيدته "من لحظة الحزن العظيم" هو ايضا نبوءة شعرية اثبتت السنوات صدقها..
"ان المسجى على راحة الخلد حي وثائر/ مازال حيا لم يمت ناصر/ مادام فى
الارض حر وثائر".
ان ناصر اذن حى يرزق ليس فقط فى ذاكرة الشعب التى لاتنسى المخلصين من ابنائها، ولكن فى واقع الصراعات الفكرية اليومية الراهنة.
الناصرية كحركة وفلسفة
ولنا
ان نلاحظ ان قليلين جدا من رجال التاريخ من يرتبط اسمهم بحركة وفلسفة تعرف
بهم، كما ارتبط ناصر بالناصرية ، وفى التاريخ الحديث مع الاختلاف الكبير
فى المضمون والاهداف ، نجد ماركس والماركسية وديغول والديغولية ، ولانعرف
فى العالم العربى ظاهرة مشابهة للناصرية.. وحتى فى التاريخ المصرى الحديث
واذ يمكننا ان نقول ان ارتباط الشعب المصرى بعبد الناصر وحبه له قد يشابه
ارتباطه وحبه لسعد زغلول الذى كان له نفس هدف عبد الناصر وهو التحرر من
الانكليز ورغم وجود من عرفوا "بالسعديين" الا ان سعد زغلول رغم هذا لم يكون
تيارا فاسفيا سياسيا و اجتماعيا واقتصاديا متكاملا يعرف به كما لم يكن له
اهتمام وتواجد فى العالم العربى ، وبذلك يظل ناصر والناصرية ظاهرة فريدة فى
التاريخ العربى الحديث.
ونجد بعد هذا ان محاولة فهم عبد الناصر عن
طريق مقارنته بعدد من رجالات العصر وقادته كما فعل البعض ممن قارنوه مرة
بديغول ومرة بنابليون لاتؤدى بنا سوى الى الاقتناع بخصوصية وتميز عبد
الناصر كتجربة عربية فريدة ، فاذا نظرنا الى من قارنوه بمحمد على فى
التاريخ الاقرب وبصلاح الدين فى التاريخ الابعد ، ورغم تقديرى لمن يعترضون
على مثل هذه المقارنات من خصومه الذين يقولون – بحق- ان صلاح الدين حرر
القدس من الصليبيين بينما اضاع عبد الناصر البقية الباقية من القدس فى
حزيران 67 م فكيف نشبهه بصلاح الدين ، اقول انه برغم وجاهة هذا الاعتراض
فان حجم الهزيمة التى وقعت لعبد الناصر لاتقلل من حجم الظاهرة الهائلة التى
يمتلكها وانما تضفى بعدا مأساوياً عظيما عليها بحيث يمكن رؤيته كبطل من
ابطال التراجيديا الاغريقية الذى تتعاظم جوانبه البطولية الباهرة بنفس
الدرجة التى تكشف عن نفسها جوانبه الانسانية الضعيفة المحزنه.
هو
المستبد العادل عند البعض، والمستبد الظالم عند البعض الآخر. ومن تناقضات
وغرائب تجربته ان المثقفين والكتاب الذى القى بهم فى السجون بسبب او لآخر..
او بدون سبب على الاطلاق هم من اصبحوا من بين المنحازين له والمدافعين عنه
الان.. وهو نفس اللغز الذى يبدو لمن يحاول ان يفهم سبب حزن مصر الهائل يوم
وفاته وهو يتركها محتله احتلالا عسكريا باطشا اشد قسوة وغلاظة من احتلال
الانكليز الذى خلصهم منه فى مطلع عهده.. لهذا كله تأتى مصداقية تساؤلنا
الراهن: لماذا لايموت عبد الناصر؟
ناصر ونابليون وديغول
لانريد
ان نضع ثقلا كبيرا فى ميزان المقارنة بين عبد الناصر ونابليون اذ بنى
نابليون مجده اساسا باعتباره قائدا عسكريا عظيما وفاتحا فذا رفع العلم
الفرنسى بالقوة والعدوان على اماكن شاسعة من العالم.. ولكن المقارنه تنحصر
فى ان نابليون قد انتهى مهزوما شر هزيمة امام عدوه البريطانى اللدود فى
معركة ووترلو ومات منفيا وحيدا مهملا فى جزيرة سانت هيلانه عام 1821م ة
ورغم نهايته الغير مشرفه هذه ورغم انه تسبب فى مقتل مئات الالاف من الشباب
الفرنسى فى معارك وحروب لاتنتهى الا ان الشعب الفرنسى لم يسقط نابليون من
ذاكرته ووضعه فيها موضعا مبجلا غفر له فيه هزيمته وماسببه من خراب وقدر له
فى النهاية لرتباطه الجنونى بمجد فرنسا حسب مفهوم المجد فى ذلك الزمان..
كما قدر له ايضا خصاله الايجابية الاخرى مثل تقديره للعلم والعلماء
والثقافة والتاريخ بالاضافة الى شجاعته الشخصية الفائقة .. المسألة اذن
ليست فقط هى كيف تأتى نهاية البطل.. فالبطل سيموت فى النهاية وقد يموت
مهانا مخذولا ولكن المسألة هى شخصية البطل وخصاله التى ظهرت فى مواقفه
وافعاله ..اى ان الشعوب تميل هنا الى محاسبة البطل على اساس ان "الاعمال
بالنيات" وليس بالنتائج ومن هنا يظل عبد الناصر حيا فى الذاكرة المصرية
والعربية.. كما يظل نابليون فى الذاكرة الفرنسية والعالمية.
اما
المقارنة مع ديغول، فتأتى فى حديث المفكر الفرنسى اندريه مالرو مع محمد
حسنين هيكل احد اخلص خلصاء عبد الناصر اذ قال مالرو لهيكل مقارنا بين عبد
الناصر وديغول : كلاهما واجه فى عصره اختيارا دوليا هائلا وكلاهما رفض هذا
الاختيار.. كلاهما قيل له: هل انت مع امريكا ام مع الاتحاد السوفيتى؟
وكلاهما قال: لست مع امريكا ولست مع الاتحاد السوفيتى. وانما انا مع وطنى
وامتى.
ورغم ان هذا الموقف يعكس فكرا استراتيجيا بالغ الذكاء نجح فى
تكوين حركة دول عدم الانحياز الا انه يعكس ايضا موقفا شخصيا بالغ الاعتزاز
بالكرامة لان التابع لاكرامة له لذلك تقترن صفة التابع دائما بصفة الذليل
فى سياقنا العربى.. ويمكننا اذن ان نقول ان اختيار عبد الناصر لنفسه ولامته
الا تكون تابعة لهذه القوة العالمية او تلك والتى عكستها حروبه الاعلامية
الضاربة ضد التحالفات التى اراد الغرب فرضها على دول المنطقة.. ان هذه
افصحت للامه العربيه عن مدى استقلالية شخصية عبد الناصر وشدة اعتزازه بنفسه
كمصرى وكعربى وكان هذا من اكبر عوامل الجذب البراقة الحارة التى اختطفت
قلوب الشعوب العربي ة حوله.. لانها شعوب تحررت لتوها من استعمار واستعباد
طويل الامد، وكانت كرامتها وعزتها وحريتها امام الاجنبى من اشد همومها فى
ذلك الوقت. وسنجد ان الاعتداد بالكرامة الى حد مفرط هى الصفة التى تكررت
مرارا وصبغت حياة ومواقف عبد الناصر السياسية كلها وكانت من اول الروابط
العاطفية التى ربطته بالشعوب المسحوقة والجماهير التى طال شوقها للحياة
الكريمة الحرة التى طالما تحدث عنها فى خطبه.
زعيم الوحدة العربية
ان
حب الجماهير لعبد الناصر خارج مصر ربما يفوق حب المصريين له.. ويبدو ان
هذا صحيح الى اليوم وليس هذا بالعجيب اذا مالاحظنا ان عبد الناصر هو الوحيد
فى التاريخ العربى الحديث الذى يوصف بأنه زعيم الوحدة العربية. ورغم ان
فكرة الوحدة العربية لم يبتدعها عبد الناصر اذ كان قبله كثير من المبشرين
بها من المفكرين العرب وخاصة فى سورية ولبنان الا ان الوحيد الذى استطاع ان
يأخذ هذه الفكرة من الورق الى الواقع هو عبد الناصر حين حقق الوحدة بين
مصر وسورية فى عام 58 بعد اربعة اعوام فقط من رئاسته لجمهورية مصر ..ورغم
انهيار الوحدة مع سورية بعد ثلاث سنوات ونصف من تكوينها الا ان هذا لايغير
من ان عبد الناصر هو الزعيم العربى الاكثر اخلاصا وانتماء لفكرة الوحدة
العربية.. اذ كانت جزءا اساسيا من تكوينه النفسى وتفكيره الاستراتيجى منذ
اشتراكه فى حصار الفالوجة فى حرب 48م من اجل فلسطين .. حيث اكتشف كيف ان
تفكك العرب وعدم التنسيق بين الجيوش العربية المشتركة فى المعارك كان سبب
هزيمتها.
ومن عبث الاقدار الذى تلتف فى حباله المأساوية دائما شخصية
البطل التراجيدى ان وفاة عبد الناصر فى 28 ايلول (سبتمبر) عام 70م جاءت
على اثر اخر عمل قام به من اجل الوحدة العربية وحقن الدماء العربية التى
كانت تسيل فى شوارع عمان بين الجيش الاردنى وقوات المقاومه الفلسطينيه
وقتها. و حصل عبد الناصر على موافقة الملك حسين وياسر عرفات على وقف اطلاق
النار.. ودهش الجميع من هذه النتيجة التى لم يتوقعها احد فقد كان حجم الدم
المراق وعمق الخلافات السياسيه تشير الى استحالة ذلك.
ان عبد الناصر
وهو فى اضعف حالاته كان له مع هذا من القوة والنفوذ والسلطة المعنوية
والرمزية الهائلة مايمكنه من ايقاف حرب ضارية بين جهتين عربيتين وهو وضع لم
يتمكن احد من تحقيقه فى النزاع على ابار النفط بين الكويت والعراق مما ادى
الى عدوان العراق على الكويت ولكن هكذا هى شخصية البطل التاريخى فله من
القوة الداخلية فى شخصيته وضميره ورؤيته وجاذبيته ماتؤهله لان يقود فيتبع
الاخرون.
فما هى تلك الخصال فى شخصية عبد الناصر التى جعلته قويا حتى فى ضعفه ومؤثرا حتى وهو جريح ينزف فى آخر يوم فى حياته؟
كان
عبد الناصر تجسيدا لنظرية البطل كصانع للتاريخ فقد كان ظهوره وصعوده
السريع كشخصية فذة اتخذت ابعاد البطل التاريخى وما امكنه تحقيقه بسبب قوة
هذه الشخصية ونصاعة جوانبها الرمزية من شجاعة واعتداد بالنفس والكرامة و
"الطهارة الثورية" حسب مصطلح تلك الفترة والترفع عن طلب اللذة والمال
والرفاهية الشخصية والفساد بالاضافة الى كاريزماتية الشكل والصوت والصورة
والخطاب وسحر الدغدغة العاطفية لشعب محروم من العزة والكرامة لقرون طويلة..
كان هذا كله تأكيدا لاهمية الفرد البطل كصانع للتاريخ.. وكان الخطأ الفادح
هو فى اكتفاء هذا البطل الفرد واكتفاء المناخ الذى صنعه حوله من رجال
وثقافة بهذا البطل الفرد نفسه كبديل عن بقية الملايين من الافراد التى سلب
حريتها تدريجيا لكى تصب احلامها وطاقاتها كلها فى فرد واحد على القمة.
والذى
يهمنا هنا هو محاولة فهم الجوانب المختلفة فى شخصية عبد الناصر التى جعلته
يلعب دور البطل فى الساحة العالمية وفى الشارع المصرى والعربى.. بشكل يرفض
ان ينحسر الى اليوم .